أخبار عاجلة

المضحكات المبكيات

السبت 05 ديسمبر 2015 11:09:38 مساءً

أن تضحك وتبكى فى آن واحد، فتلك ميزة وعيب فى آن واحد، لا يحوزهما سوى قلب برته الأيام وأثقلت كتفيه همومه، وانهكته آلام العشق والحنين لذكريات جمعته بأناس رحلوا عن حياته .. فى دنيا موحشة أعيشها وحيدا بين مهابة ورجاء، يوم فرح وعام حزين، وما بين هذا وذاك تحفنى الذكريات التى تأبى أن تفارقنى أو أن تسقط عن كاهلى بالتقادم .

 

استهل كلماتى المختنقة بالمضحكات، لكنى لم أعد أتذكرها، ربما يدفعنى ذلك إلى أن أنتقل سريعا إلى المبكيات، كيف تنسى تلك اللحظات المتشحة بالسواد التى تُنزل دموعك الغالية فتلهب وجنتيك وتجعلك تعى معنى العذاب، تجعلك تصارع قلمك الحزين، تخنقه فى قبضة يديك لتبدأ وتسطر ما تسهر بسببه ليال طوال، لتكتشف بعد ذلك أن ما فى داخلك أعمق وأقوى مما سطره قلمك الحزين، فلا يمكنك سوى التنهد العميق، عندها يتجمد الدمع فى مقلتيك ولا يسعك سوى قول آآآآآآه .

 

المبكيات كثيرة، لكنى لن أنسى مشهد وفاة والدىَّ اللذين أحببتهما حد الجنون، أفتقدهما كثيرا فى حياتى، وأبعث إليهما برسالة أسطرها بدموع تسيل من هاتين المقلتين المتلهفتين لرؤيتهما فأقول "إلى من ربيانى صغيرا .. إلى والدىَّ النائمين طويلا .. وددت أن أخبركما بأنى اشتقت إليكما فى ذلك المكان الذى أجتمع فيه بإخوتى ومكانكما فارغ لم ولن يملأه أحد سواكما .. رحمكما الله يا أصفياء الروح والقلب .. رحمة الله تغشاكما" .

 

لن أنسى تلك العجوز التى تعلقت يديها بيدى تجبرنى على البقاء إلى جانبها لحظات، ففى قافلة خيرية لتوزيع البطاطين بصحبة عدد من أصدقائى على فقراء مدينتى، قرعت باب امرأة تعيش وحيدة فريدة فى قبر يغشاه الظلام رغم أنها لا تزال على قيد الحياة، حين دنوت منها أقدم لها نصيبها مما جمعناه من بطاطين بمساعدات أهلية، أردنا أن نضحكها فأبت إلا أن تبكينا، بكلمات خرجت من بين شفتيها اللتين تعانيان الجفاف: "يابنى بطانية إيه .. انت عارف أنا بقالى قد إيه مكلتش لحمة .. خد يابنى البطانية وهاتلى ولو نص كيلو لحمة" .

 

لن أنسى تلك السيدة العجوز الكفيفة، التى كشفت عن ساقيها فى قارعة الطريق لتقضى حاجتها، ربما يوهمها خيالها "الأعمى" أن أحدا لن يراها كما لو كان الجميع يرى بعينيها اللتين حرمتا من نعمة البصر، تلملم ما تبقى من ثيابها المهلهلة التى تكاد تغطى ما ظهر من حطام جسدها النحيل، وتسعى لاتخاذ جانبا آخر غير الذى قضت فيه حاجتها، أتجه إليها أحدثها: "أماه أين بيتك؟" فتقول "بيتى على مقربة من هنا لكنى غادرته إلى غير رجعة"، ربما لا يكون سبب مغادرتها إياه صادما إلا لمن حرم من أمه، "أصل بنتى بتضربنى وبتحبسنى وبتاخد منى أى فلوس يديهالى ولاد الحلال اللى بيعطفوا عليا" .

 

ما أكثر المبكيات التى لا يتسع المقام لذكرها، فتذوقوا الألم، - لا أذاق الله قلوبكم الألم - لكنى بالفعل تعرضت إلى ما هو أقسى من ذلك، لكن ما رسخ فى ذهنى كقدور سليمان الراسيات، ما لقيته على يد أمى بائعة المناديل، ففى أعقاب وفاة أمى وفى لحظات انتظار داخل سيارتنا التى استوقفها أخى على جنبات الطريق لشراء بعض مستلزماته، وتركنى بداخلها أفكر فى أمر استمرار وضع كهذا الذى أفتقد فيه صدر أمى وحنان أمى وابتسامة أمى ودعوات أمى، إذ تأتينى أمى فجأة فى هيئة بائعة المناديل .. نعم ففى وسط حالة "السرحان" أفيق على وجه مبتسم يطيل النظر إلى عبر نافذة السيارة، ثم يتخذ طريق القرب منى، "ربنا يهون عليك يابنى" كلمات ما إن سمعتها حتى تملكنى يقين بأن الله أذن لأمى أن تعود إلى دنياى الموحشة تنثر على ما تبقى من قلبى الحزين الصبر والجلد لحين لقاء يرونه بعيدا وأراه قريبا، بابتسامة أضاءت ثغرى وأزالت دموعا حبيسة أعينى، انحنيت أمام قامتها وأعطيتها ما أعطيتها دون طلب مناديل .

 

رباه ما هذا الذى يدق طبول أذنىَّ ؟! .. "خد بقا علبة المناديل دى من أمك" ثم انصرفت على مهل حتى غربت عن نواظرى، كلمات أصابتنى بالذهول وأفقدتنى القدرة على النطق، وأشاعت الحيرة والدهشة على وجهى المبتسم فاستدعت دموعا حبستها منذ لحظات فرحا برؤية أمى، سالت من عينى إلى شفتىَّ فاختلط الضحك بالبكاء، عندها أدركت أنها تلك التى هِمت فى دنياى أبحث عن معناها .. إنها "المضحكات المبكيات" .